الباب الخامس: في زيارة سيدنا محمد المصطفى أحمد المجتبى ﷺ

فصل في حكم الزيارة

اعلم أنه قد اختلفت فيها أقوال أهل العلم، فذهب الجمهور: إلى أنها مندوبة، وذهب بعض المالكية وبعض الظاهرية: إلى أنها واجبة، وقالت الحنفية: إنها قريب من الواجبات.

وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية: إلى أنها غير مشروعة، وتبعه على ذلك بعضُ الحنابلة، وعن ابن عباس عند العقيلي بنحوه، وعنه في "مسند الفردوس" بلفظ: "من حج إلى مكة، ثم قصدني في مسجدي، كتبت له حجتان مبرورتان".، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مصنفاته، وفتاواه، ومناسكه: استحبابَ زيارة قبر النبي ﷺ على الوجه المشروع، ولم يذكر في ذلك نزاعاً بين العلماء، وإنما ذكر الخلاف بينهم في السفر لمجرد زيارة القبور، واختار المنع من ذلك كما هو مذهب مالك وغيره من أهل العلم.

فصل في آداب الزيارة وما يتصل بها

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني -رحمه الله تعالى-: إذا دخل المدينة قبل الحج أو بعده، فإنه يأتي مسجد النبي ﷺ ويصلي فيه؛ فإن الصلاة فيه خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلا إليه، وإلى المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، هكذا ثبت في "الصحيحين من حديث أبي هريرة.

وقال ﷺ: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذِّر مما فعلوا، قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها-: ولولا ذلك، لأبرز قبره، ولكن كره أن يُتخذ مسجداً، أخرجاه في "الصحيحين"، فدفنه الصحابة في الموضع الذي مات فيه من حجرة عائشة، وكانت هي وسائر الحجر خارج المسجد من قبليِّه وشرقيِّه، ولكن في زمن الوليد بن عبد الملك، غيّر هذا المسجد وغيره، وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز، فأمر أن يشتري الحُجَر، ويُزاد في المسجد، فدخلت الحجرة في المسجد من ذلك الزمان، وبُنيت منحرفةً عن القبلة مسنَّمة لئلا يصلِّي إليها أحد. وزيارة القبور على وجهينزيارة شرعية، وزيارة بدعية، فالشرعية: المقصودُ بها السلامُ على الميت، والدعاءُ له، كما يقصد ذلك بالصلاة على جنازته، فزيارتُه بعد موته من جنس الصلاة عليه، والسنةُ فيها أن يسلم على الميت، ويدعو له، سواء كان نبياً، أو غير نبي، والزيارة البدعية: أن يكون الزائر مقصودُه منها أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به، فهذا ليس من سنة النبي ﷺ ولا استحبه أحد من سلف الأمة، بل هو من البدَع المنهيِّ عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها.

فصل في فضائل "المدينةوما يشبهها

قال عثمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن جعفر، قال: سمى الله "المدينةَ": الدارَ والإيمان، قال البيضاوي سمىبالإيمان؛ لأنها مظهره ومصيره، وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ "أُمرتُ بقرية تأكل القرى، يقولونيثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد" متفق عليه، ولفظ البخاري: "إنها طيبة، تنفي الذنوب كما ينفي الكير خبث الفضة".وروى الطبراني مرفوعاً: "أول مَنْ أشفعُ له من أمتي أهلُ المدينة، ثم أهل مكة، ثم أهل الطائف، وأخرجه الترمذي.

الخاتمة

قال العبد الخامل المتواري، صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري، عفا الله عنه ما جناه، واستعمله فيما يحب ويرضاه، قد رحلت يوم الإثنين لسبع وعشرين قد خلت من شهر شعبان سنة خمس وثمانين ومئتين وألف الهجرية، مريداً لتأدية حج الإسلام إلى "بيت الله الحرام"، وكانت مدة إقامتي بمكة وجواره تعالى أولاً وآخراً نحواً من أربعة أشهر، وعندي أن حاصل عمري كان تلك الأيام، والذي مضى في غيرها لم يكن إلا منام أو أحلام، وأرجو من الله تعالى عودَ هذه الأزمان، وقضاء بقية الحياة في جوار الرحمن.


رحلة الصديق إلى البيت العتيق
رحلة الصديق إلى البيت العتيق
محمد صديق حسن خان القنوجي البخاريّ
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00